واقع مرير
بقلم.. ماهر اللطيف
كان مارا صدفة أمام بيت الجلوس وهو يستعد للخروج من المنزل، حين سمع ابنته تقول لأمها بصوت منخفض وتبكي بحرقة :
- …لن أكمل معه المسار أماه، سأخبر أبي بذلك في الحال ليجد لي حلا
- (مشيرة لها بيدها حتى تخفض من صوتها أكثر، هامسة لها في أذنها قبل أن يعلو صوتها قليلا) …. إنه يحبك يا مجنونة، فلا تحطمي قصة حبكما بهذه السهولة وموعد زواجكما اقترب ولم يعد يفصلنا عنه غير شهرين ونيف
- (مقاطعة بشدة وبصوت شبه عال) لا، لا، لا يحبني، بل إنه دائما ما يقارنني بك ويفضلك عني (تحاول أمها إسكاتها لكنها تواصل)، إنه يحبك أنت ويتمنى وصلك والعيش معك
- (مقاطعة وقد احمر وجهها وتلعثم لسانها) صه. كفي عن الهراء وانتقي عباراتك واعلمي أن مخاطبتك هي أمك…
وواصلتا الحِوَار وهو مصدوم ، لا يصدق ما يسمع، يكاد يغمى عليه، وقد تذكر قصة مشابهة قصها عليه أحدهم ذات مرة ملخصها أن أما أحبت خطيب ابنتها و راودته عن نفسها إلى أن كره خطيبته وتعلق بها تعلقا شديدا أدى إلى طلاق الوالدين وتشتت العائلة…
وقصة أخرى مفادها أن خطيبا أعجب بحماته الأرملة وسعى للتقرب منها بشتى الوسائل، وكان يحضر إلى المنزل حين تكون الأم وحيدة ويختلق الأعذار والأسباب التي جعلته يزورها في مثل هذا الوقت إلى أن نال منها وابتعد عن البنت و تعلق بالأم وانتهت الحكاية بانتحار الفتاة وتتبع الجناة قضائيا….
ومازال يفتش بين الحكايات في ذاكرته حتى شعر بيد تمسكه من ذراعه وتقول له برقة وحنان “رويدك أبي، كدت تقع أرضا، تمهل واجلس هنا” وقد احمر وجهها وكذلك أمها بعد أن أيقنتا أنه سمع حوارهما مما لا شك في ذلك.
وما هي إلا لحظات حتى علا صوت زوجته محاولة تبرير وتعليل ما دار بينها وبين ابنتها من حوار، متى أشار لها بيده أن تصمت، والتفت إلى ابنته وقال لها بكل ثقة في النفس ” اجلبي كل ما أعطاك من هدايا وعطايا، انزعي ما في رقبتك ويدك من ذهب أهداه لك حتى أتصل به هاتفيا ليأتي للمرة الأخيرة أمام المنزل ويأخذ متاعه. اقطعي علاقتك به نهائيا من الآن قبل أن يفتت أسرتنا ويشردها (وكان يسكت زوجته كلما حاولت الكلام ومحاورته)، وستثبت لك الأيام مشروعية قراري و صوابه. هيا انهضي ونفذي دون نقاش “
وفعلا تم ذلك بسرعة البرق، وقدم الخطيب فمنعه من دخول المنزل وأخبره أن ابنته ليست للزواج حاليا ولا يمكنها أن ترتبط به وهو يرنو للوصول إلى غيرها عبرها، فهي ليست قنطرة للحرام. ورغم محاولاته وتبريراته الواهية، فقد تمسك الأبُّ بقراره وطوي صفحة هذه الخطوبة الهشة نهائيا.
ومع مرور الوقت، تفطن إلى أن خطيب ابنته لا يزال يجوب أزقة الحي ويتجول فيها باستمرار خاصة في الصباح حين يكون السكان – أغلبهم – خارج الحي إما في الشغل أو في المقاهي أو في السوق وغيرها، كما علم أنه يطرق باب منزله من حين لآخر ويتحادث مع زوجته فترة من الزمن في كل مرة (وقد أنكرت الزوجة هذه الحكاية مرة واحدة ونعتتها بالكذب والافتراء وتلفيق التهم ومحاولة تشويه سمعتها وسمعة العائلة…).
لذلك، قرر متابعة الموضوع شخصيا وتظاهر بالذهاب إلى العمل ذات صباح كالعادة، فغادر المكان راجلا حتى ولج الحي المجاور ولم يلتفت إلى الوراء ليتأكد من مراقبته من طرف أي كان، ثم دخل مقهى أين احتسي قدرا من القهوة، وعاد أدراجه نحو البيت بسرعة ما إن لمح الشاب – كما كان يعتقد – مختبئا وراء منزل من منازل الحي حين اقترب منه (وهو يبعد عن بيته مسافة قصيرة).
وما إن رمي نظره نحو بيته حالما بات ممكنا، حتى رآه واقفا أمام بابه يحكي مع زوجته، فأسرع، هرول، وجري حتى وجد نفسه بجانبهما والعرق يتصبب منه من كل جانب، فابتسم في وجهها ابتسامة مصطنعة وقال لها “الناس يكذبون ويختلقون الحكايات؟ يفترون ويحسدون!…”
ولم تجد ما تجيب وتسمرت في مكانها وقد اصفر وجهها و شحب، واستسلمت للبكاء والعويل معتذرة ونادمة عما بدر منها من تصرفات صبيانية، فيما قفز هو إلى الوراء ودفع الشيخ بقوة إلى أن سقط أرضا وفر كالسارق تاركا وراءه غبار نعليه.
ومن وقتها، كان الفراق والطلاق وتحطيم العائلة تحطيما كليا، وثبت القول “ما بني على باطل فهو باطل”، وقد دفع كل فرد من أفراد هذه الأسرة الثمن غاليا وباهظا جدا لا يسع المجال هنا إلى تفصيل ذلك بعد هذا العرض المضني.