حيوانية بعض البشر
بقلم.. ماهر اللطيف
سألني أحد الأصدقاء مرة منذ سنوات وكنا نتقاسم مأدبة غداء في مطعم من مطاعم المدينة الفاخرة بمناسبة نجاح ابنه في اجتياز إمتحان البكالوريا ونتجاذب أطراف الحديث من هنا وهناك يمينا وشمالا:
- كيف تبرز الحيوانية عند البشر يا من تدعي الحكمة والمعرفة؟
فابتسمت بعد أن ارجعت الملعقة إلى مكانها ونفضت يداي من فواضل الخبز ومسحت فمي مما تعلق به من مأكولات ونظرت إلى بقية الحضور وهم يبتسمون، ثم يضحكون ويقهقهون سخرية واعجابا بجرأة السائل الذي استطاع أن ينال من كبريائي و شموخي كما يعتقدون ويرون حسب ما أعتقد، فاستقمت في جلستي واستعددت جيدا ثم قلت بلكنة ساخرة وهادئة هدوء المكان وموسيقاه المنبعثة في كافة الارجاء والاركان الممتلئة بالحرفاء من كافة الأعمار والاجناس :
- الحيوانية ببساطة هي اسم مؤنث منسوب إلى الحيوان ويعني غريزة حيوانية أي إحساس. فالحيوان عندما يحس بالجوع مثلا يسعى إلى إشباع غرائزه وسد حاجياته بكل الطرق الممكنة والمتاحة دون تفكير او تخطيط، بما ان الفكر والعقل إنساني بحث
- (مستهزئا) وما الجديد في ذلك؟
- (وقد بدأ الغضب يتغلغل في داخلي حتى احسست بنيران التشنج تلتهب في كل اجزائي ومكوناتي) أعلم أني لم آت بجديد في هذا التعريف بحضور رجال يشهد لهم بالكفاءة والحنكة والحرفية في مهنهم ومراكزهم العملية. لكن،سأقص عليكم قصة سمعتها مؤخرا من زميل لي تلخص “الحيوانية البشرية” و الأنانية المفرطة والجحود وحب الذات وتبرزها في احلك حالاتها واتعسها وتجرد بعض البشر من كل انسانية ورحمة ورأفة (والكل يبتسم خلسة ويتلذذ وضعي في هذا الموقف الحرج)، فقد كان زميلي يعمل في قسم من أقسام مؤسستنا العمومية الكبرى مع زمرة من نخبة الشباب وخيرتهم لدينا، وكان أحدهم – والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه بطبيعة الحال – يمر بظروف مادية قاسية جعلته يتحايل ويقترض المال من الجميع بمن فيهم الحرفاء والمتعاملين معنا كلما تسنى له ذلك دون أن يسدد لهم مليما واحدا طيلة سنوات وسنوات بدعوى عدم مقدرته على ذلك وتكاثر الامه وهمومه ومصاريف عائلته وصغاره وغيرها، مما حدا بالجميع إلى كبح الجماح وعدم التعامل معه مهما كانت تعلاته و “رواياته” وحاجياته ،الشيء الذي جعله يتحايل على أناس آخرين بعيدا عن المؤسسة .
وبعد مدة، مرض أحد المسؤولين بنفس القسم بمرض خطير ولازم الفراش، فقرر زملاؤه اعانته ومد يد المساعدة له لمجابهة مصاريف هذا السقم وما يتطلبه من انفاق وجهاد وكفاح وصبر وتجلد وراحة، فجلبوا حصالة كبيرة الحجم وشرع الموظفون في ملئها يوما بعد يوم بتبرعات مالية مختلفة إلى أن حل موعد تجميع المال وعده قبل أن يتولى أحد الزملاء اعطاءه للمريض نيابة عن الجميع، فكانت فعلا الطامة الكبرى والفاجعة العظمى التي لم ينتظرها او يتخيلها أحد للأسف.
فقد اصفرت الوجوه وتصحرت من كل دم وتجمدت الافواه والعروق والاجساد إلى درجة التحنط قبل أن تسمع عبارات الدهشة والصدمة تتعالى من شفاه الحضور من قبيل “شيء لا يصدق” و”مستحيل” و “حسبي الله ونعم الوكيل” وغيرها ما إن كسرت الحصالة ووقع عد المال الموجود الذي لم يكن البتة كما انتظره الجميع وفقا لما وضعوه سلفا وحضروا على الواهبين، فقد كان المبلغ زهيدا جدا لا يتجاوز عشر التكهنات والتنبؤات وهو ما جعلهم يقرون اقرارا باتا ومؤكدا ان الحصالة تعرضت إلى السرقة والنهب من طرف أحدهم.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تعرضت مكاتب بقية الاقسام تباعا إلى الخلع والنهب والسرقة واختفاء ما صغر حجمه وكبر ثمنه خاصة، ولم يشك أحد في اقدام احد الموظفين على ذلك، مثلما فعلوا مع سارق الحصالة اذ ارجعوا الحوادث إلى امكانية تسلل احد الغرباء أو الحرفاء إلى المكاتب وقد فرغت من كل موظف في لحظة غفوة او إهمال وقام بفعلته تلك.
ثم، تطور الأمر إلى فقدان المعدات والأجهزة والالات في الورشات والمكاتب مما جعل المدير يستنجد بالأمن لكشف طلاسم هذا اللغز المحير الذي ارق الجميع وجعلهم يفقدون الثقة في انفسهم وفي جميع المتواجدين والمتعاملين معهم..
في الاثناء،كان الزميل المتحايل يتضامن مع المجموعة ويشاركها احزانها وبحثها عن الجاني، ويسأل عن التفاصيل والمعلومات المستقاة في هذا المجال ويساهم في كل المبادرات والمساهمات المادية والمعنوية إلى أن اعتقد الجميع انه قد تاب واسترجع رشده وصوابه….
لكن،” تجري الرياح بما لا تشتهي السفن” كما يقال، فقد أظهرت الأبحاث بعد ختمها ان هذا الزميل هو الجاني الحقيقي وهو من اقدم على هذه المهازل التي انتهت به إلى السجن وعزله من وظيفته وحرمان عائلته بالتالي من مورد رزق قار، وخلف لزوجته وابنائه عارا لن تمحوه الأيام والاقدار بسهولة لعقود وعقود مهما غيروا الامكنة والمهن وتقدمت بهم السنون…
فقد ارجع ذلك إلى ظروفه المادية والعائلية القاهرة وقلة حيلته وجهده من أجل توفير حاجيات أسرته وتأمين عيشها واستمرارها استمرارا سلسا كبقية الأسر والعائلات المتوازنة…