أخر الأخبار

ثورة المشاعر وتحكيم العقل

وقت النشر : 2024/12/01 10:13:31 PM

بقلم الكاتب د. صالح وهبة

 

الصراع بين العقل والعاطفة، بين العقل المرشد والعاطفة الجياشة، صراع دائم..
ولكن لمن ترجح الكفة ؟

عقل بدون عاطفة تعطي حياة جافة متشددة، عاطفة في غياب العقل تعطي تهور واندفاع،
وإذا توافق العقل مع العاطفة يحدث الاتزان النفسي وهذا مايسمي العقلاطفية emotional rationalization
بمعنى : استخدام العقل مع العاطفة من أجل الوصول إلى مستوى النضج والتصالح مع النفس، وهو أصعب شيء يواجهه الإنسان في مسيرة حياته .
فمن أخطر ما يؤرق الإنسان هو اندفاع المشاعر دون تحكيم العقل، خاصة وأن المشاعر تخرج في لحظات وثوان معدودات ..
وفي هذا الصدد وجد العلماء أن بين الشعور والفكرة (بين إنك تحس وتفكر )لا يتعدى سبع توان، وهذا معناه أن الشعور يخرج بسرعة فائقة عن الفكرة (لا تلحق خلالها أن تنطق بجملة مفيدة )
وقد تم عمل دراسة خلاصتها، إنك لو صبرت على نفسك قبل أن اندفع بمشاعرك ستعطي فرصة وهدنة (في هذه الأثناء ) لعقلك يعمل ويفكر، لأن السرعة الرهيبة التي تخرج بها المشاعر لا تمهل العقل بأن يفكر وتكون النتيجة نتصرف بشكل عشوائي وبعدها نحس ونفكر ونتعامل مع عقولنا ولكن للأسف يكون الوقت قد فات it’s too late..
فإذا أطلقنا العنان لمشاعرنا دون حسابات العقل، سنكون مثل دمي ولعب في أيدي عواطفنا ..
والإنسان السوي هو الذي ينجح في المصالحة والاتزان بين عقله وعواطفه فلا يجعل أيًا منهما يتغلب على الأخر

“مثال من الحياة”
راكب سيارتك وشخص يسير وراءك ويصدر كلاكسات مزعجة من الخلف فقلت له “تفضل “وسمحت له أن يمر أمامك ولكن مازال يصدر كلاكسات وفورا “الدم بدأ يغلي في عروقك ولم تعطي عقلك فرصة يفكر ولو ثانية” وأنت في شدة الفوران بدأ يقترب من سيارتك رويدًا رويدًا وكان على قاب قوسين أو أدني من التصادم بك وفجأة انحرف بسيارته وقف أمامها فقمت على الفور وأنت ثائر بفتح الباب للخناق ولكن فوجئت وأنت مندفع إليه يأخذك بالأحضان قائلا: (أهلا دكتور ..حضرتك وحشتنا كتير وأنا سعيد جدا أني قابلتك فقلت له إنتي أنت ؟ قال أنا كنت تلميذك، كنت أستاذي وأكن لك كل احترام وتقدير .. وفجأة تحول شعور الغضب إلى شعور استغراب ثم استلطاف ثم السلامات والتحيات ..

الشخص الغاضب الثائر، لو تعاملنا معه بالراحة ونقول له كلام لطيف ممكن يتغير المود “mood “ الخاص به فيتحول من ذئب ثائر إلى حمل وديع ..
الصراع بين منطق الفكر واندفاع المشاعر يتم بشكل لا إرادي وبدون وعي لأن أثناء اندفاع المشاعر، التفكير المنطقي يتوقف ويصاب العقل بالعمى المؤقت، واستمرار هذه المشاعر المتوهجة تأكل وتحد من قدرة العقل على التفكير ..

“من أقوال الفلاسفة”
أفلاطون قال :المشاعر تسبب العبودية ..فمثلًا الحب الاندفاعي يفقد عقل الإنسان(يكون مبسوط بلا سبب ) وممكن يكون مستعبد بشيء لا حيلة له فيه

مثال

بنت فائقة الجمال، مثقفة ومن عائلة محترمة وعلى خلق، القي عليها شاب شباكه والتقطها بصنارته من وسط الأسماك بعد أن جرت وراء الطعم الذي رماه لها وأصبحت الفرصة سانحة له للعب بمشاعرها فوقعت في حبه fall in love وفي الواقع لا تناسبه
لا شكلًا ولا موضوعًا ولا ثقافة ولا مستوي اجتماعي ولا تعليمي ولا مستوى مادي ولا مستوي فكري وأكبر منها سنًا .
وعندما تسالها عن أنها غنية وهو فقير تقول : عش العصفورة يكفينا وحبة زيتونة تعشينا .. وعندما تسالها عن فارق السن تقول: الحب لا يعرف السن .
وتجدها ولهانة به وغرقانة في حبه ومدلوقة عليه مثلما تندلق المكرونة بخيوطها في الحلة ومن سرعة تدفقها تتشابك الخيوط وتكاد تلتحم ببعضها البعض .
تجدها ضاربة عرض الحائط بكل شيء أمام هذا الفارس الذي تملك مشاعرها وتتوهم أنه سيطير بها على حصان أبيض إلى عالم الأحلام ..
وتكون النتيجة إما أن تفيق من هذه الغيبوبة على كابوس قبل أن ترتبط به .
أو تتزحلق وتقع على رقبتها وترتبط بة وفي الآخر تندب حظها ، لكن الوقت يكون قد فات !!!!
وتحدث الكوارث !!!!
هذه هي ثورة المشاعر

اسبينوزا قال :المشاعر ممكن تصنع منك عبودية لكن إذا شعرت بالشعور المناسب في الوقت المناسب (مع استخدام العقل ) ممكن تصل لأهدافك..
“توضيح”
المشاعر ضرورية إذا عرفنا توظيفها “ويقودها العقل”
وقال أيضا المشاعر مهمة لأنها تنقذك من المخاطر مثل مشاعر الخوف فشعورك بالخوف شعور صحي ينقذك من الخطر ومشاعر الحب تعطي للحياة طعم إذا استخدمت في مكانها الصحيح، فعندما تحب البنت شخص وتتعلق به ويكون مناسب لها في السن ومتوافق معها في المستوى الاجتماعي والثقافي والمادي يكون حب نموذجي وحتي لو توجد فروق بسيطة ممكن تعدي .
لكن العقل المجرد من المشاعر يصنع من الإنسان فكر متصلب خالي من العواطف والمشاعر والأحاسيس ويكون الإنسان أشبة بآلة صماء لا تشعر ولا تحس ..
الشعور الطيب مع العقل المتزن يصنع من الإنسان كائن جميل يشعر ويحس ويتعاطف ويفرح ويخاف ويحزن ويغضب ويحب .
هذا الشخص لو غضب وقبل أن يستشاط في الغضب، فورا يجري إلى عقله ويطلب منه أن يقود مشاعره ويمسك زمام الأمور ليوجهه في الاتجاه الصحيح وهذا ما نسمية الاتزان بين العاطفة الثائرة والعقل الحكيم …

“استيقن أسما ..جلين كوران ”
قالا الآتي :
الإنسان يمتلك عقلان، عقل قديم وعقل جديد يعلو العقل القديم..
وللأسف معظمنا يستخدم العقل القديم أكثر من استخدام العقل الجديد الذي وهبه الله فينا وميزنا به عن باقي المخلوقات..
العقل القديم هو الذي تشتغل به الحيوانات وهو خاص بغرائز معينة مثل غرائز الخوف واللذة والغضب …
والمفترض العقل الجديد هو المتحكم في العقل القديم وإلا صار الإنسان أشبه بالحيوانات…
والمستوى الذي نرنو ونتطلع إليه في هذه الحياة هو أن نصل بالعقل القديم أن يكون تحت سيطرة العقل الجديد بمعنى :
“مشاعرنا تكون تحت سيطرة عقولنا ” …

“الخلاصة “…
(١) إذا استسلمت لشعورك فقط ستصبح مستعبد لها ..
(٢) إذا أعملت عقلك مع شعورك ستصبح إنسان ..
(٣) إذا كان عقلك القديم تحت سيطرة عقلك الجديد ستصبح إنسان ناضج وصحيح نفسيا …
(٤) غياب المشاعر واستخدام العقل فقط سيجعل منك آلة أو ماكينة صماء لا تشعر ولا تحس ..
(٥) غياب العقل يصنع منك اندفاع مشاعر …
(٦) عندما يحدث اتزان بين العقل والعواطف، هذا هو الوضع المثالي الذي يجعل سفينة حياتك تعبر إلى بر الأمان ضد العواصف والمنغصات الحياتية ….
(٧) عقل بدون عاطفة أشبة برياضيات ولوغاريتات صعبة تجعل الحياة جافة ….
(٨) عاطفة بدون عقل كطفل ينبهر بلعبة، (يلعب بها ويمل منها ويكسرها ويطلب غيرها أو شيكولاتة يتذوق طعمها ويطلب غيرها مرات ومرات ) ..
لكن عندما يتزواج ويتوافق العقل مع العاطفة، تكتمل الحكمة …

“نصيحتي”…..
لا تجعل عواطفك تتغلب على عقلك ولا تجعل عقلك يطغى على عواطفك …بل تعمل اتزان بينهما …

“أخطاء في لغة المشاعر “

(١) “كبت المشاعر ”
إنك تتجاهلها طول الوقت (لا تسمعها ولا تسميها )
إنك تنكر مشاعرك لأنك ترى كل شعور داخلك تفصح به يكون عيب وهذا ما تربينا عليه (كل حاجة عيب ) عيب تبكي الرجال لا تبكي ..عيب تحب ..عيب ..عيب عيب ……. وتكون النتيجة تكتم مشاعرك وثغور وتغلى مثل الحلة البريستو . لو الغطاء انفك شعرة تنفجر .
لذلك هذا النوع من البشر عندما يحب، يحب بجنون وعندما يكره، يكره بجنون لأن المشاعر لم يتم التنفيس عنها
وهنا يأتي دور الأسرة والطبيب النفسي والمرشد والمستشار النفسي .
دور الأب أن يسمع لابنه ويفهم مشاعره ويحتويه ويحترم غضبه ويحترم عقله ويساعده في أن يفضفض عما بداخله .
والأم تسمع وتنصت لمشاعر ابنتها.
فمثلا بنت في ثالثة ابتدائي تخبر أمها “بأنها تحب ولد في رابعة ابتدائي ” تقوم الأم بالصياح في وجهها وتمطر عليها بكلمات العيب والتحذيرات.
هذه البنت عندما تكبر ممكن يكون لها علاقات كثيرة وقد تنزلق في حفر الضياع ..
الأم الحكيمة تستمع لابنتها وتتعامل معها على مستوى سنها، فتقوم بمناقشتها وتوجيهها التوجيه الصحيح مثل (هذا إعجاب وليس حب والإعجاب شيء جميل وهذه المشاعر طبيعية) .
لو زميلك بيقول لك أنا أكره فلان ، اسمع له ولا تقاطعه واجعله يحس إنك شاعر بما يعانيه وساعده بقدر ما تستطيع ليتعامل مع غضبه بشكل صحي ..
لوعندك مشاعر مكتومة افصح عنها وفضفض بها (اكشف واعمل تهوية لمشاعرك exteriorisation ) .

(٢) “الانهماك”
الإنسان يغرق في مشاعره دون تمييز ودائما مخنوق ومضغوط ومنهمك في ألم بلامعنى (غرقان في الحب ..غرقان في الخوف ..غرقان في الغضب ..غرقان في الحزن ..غرقان في الوسوسة ..
هذا الانهماك في المشاعر دون حدود يسبب له مشاكل الشغل ..مشاكل في المذاكرة
(٣) ..”التقمص”
ياخذ شعور شخص ويرسمه داخله ثم يصف نفسه بهذا الشعور فمثلًا يقول : (أنا عصبي ..تركيبتي كده …مش ممكن أتغير )
بمعنى : تصف نفسك بشعور وتثبته وتنسبه إليك وتعيش فيه ..
والجدير بالذكر ..كل شعور مع التدريب يمكن تطويره لكن تقول على نفسك عصبي وتصدق نفسك وتحكي ذلك للناس وتقول (انا كده واللى عاجبه ! ) هذا خطأ جسيم من أخطاء المشاعر
(٤) الاندفاع..
تندفع وراء مشاعرك وتكتشف بعدها أن ما فعلته كان خطأً ويكون الوقت قد فات
انتبه !
شيئان لا سقف لهما (الغضب والعناد ) …
وأحيانا أخطاء الكلام لا يكون لها علاج ..
كلما كنت تتكلم مع الناس انتبه من كلامك سواء المسجل أو المقروء أو المسموع أو المكتوب

وهنا يأتي السوال..

كيف نتعامل مع مشاعرنا ؟
(١) “تمييز شعورك وشعور من حولك”
كلنا عندنا احتياجات نفسية عميقة أشهرها to be seen and to be self بمعنى (يراك الناس وتفهم نفسك)
“توضيح “….
تفهم نفسك ( متضايق ..مبسوط …غضبان … زعلان ) فكلما تعرف نفسك وتوصف مشاعرك وتفهم الآخرين تتجنب الكثير من الاضطرابات والأمراض النفسية ..
(٢) “ضع اسم لشعورك”
اعرف سبب الشعور الذي ينتابك مثل (أنا زعلان ليه وبلا معنى ..هو حصل ايه النهارده ؟ آه أنا افتكرت في الصباح كلمة جارحة من زميل وبدأت أفكر فيها ….أو عملت حاجة ومنتظرها طول الوقت ودائما أفكر فيها )
إذا لم تفك هذا الغموض الخاص بمشاعرك وتزيح الستار عنها وتضع لها اسم ستكون على وشك الوقوع في بالوعة الأمراض النفسية ..
(٣) ..”الفضفضة ”
عبر عن نفسك وعبر لغيرك بمعنى (فضفض عن نفسك مع أصحابك مع طبيبك ….ثم اقبل هذا الأمر حتى تستطيع التعامل معه لأن الفضفضة في حد ذاتها خطوة هامة للعلاج ..
والجدير بالذكر …فيه أشياء ممكن تتغير بالفضفضة وهناك أشياء صعبة لا يكون لك يد فيها، اتركها لربنا ولا تفكر فيها ولا تجترها من حين لآخر مثل تعرضت لأذى من أحد الأشخاص ثم رحل ….أو أشياء اتخذ فيه قرار وحاسس إنك مظلوم وما شابه ذلك ..
(٤) “عدم المقاطعة”
افهم فكرك كما هو ..لا تقاطع فكرك ولا تقاطع الناس ..
عندما تأتي فكرة في دماغك، اخلص منها أول بأول وخذ فيها قرار وضعها في دولاب النسيان واقفل عليها بإحكام ..
(٥) ..”الإنصات”
اسمع نفسك وافهمها جيدا واسمع الناس بإنصات واستمع لهم بكل حواسك واصغ لهم بكل جوارحك ..

( ٦)..المشاركة الوجدانية”
أن تكون حاضر ومتواجد بكل مشاعرك دون أحكام ولوم أثناء الحديث فلا تقيم أحد وقبل أن تصدر أحكام على أحد، ضع نفسك مكانه “put your self on his shoes “حتى تحس به .

بمعنى : “كما تريد الناس أن يتعاملون معك تعامل أنت معهم “..
(٧) “إعادة صياغة الكلام”
من أكثر ما يقربك للإنسان إنك تعد صياغة الكلام بكلام يبعث في الشخص راحة نفسية وطمانينة .
مثال …عندما ترى ابنك بعد الامتحان متضايق وتسأله عن السبب يقول لك أنه أخفق في امتحان ما ..فبدل ما تقول له :أنت مقصر ولو كنت ..ولو …ولو …ولو .. وتمطر عليه اللوم، استبدل ذلك بقولك : (أنا حاسس بك ومقدر ظروفك .. أنت كنت مرهق ….خيرها في غيرها ..استعد للقادم واعمل ما عليك واترك الباقي على الله ) ..
(٨) ..”التصرفات الخاطئة تكون في الفعل وليس الفاعل”
التركيز يكون على المواقف وليس على الأشخاص فمثلًا عندما يغضب إنسان منك فهو غير راضٍ على سلوكك وتصرفاتك وليس العيب في شخصك …

(٩) “لا تقفز على الحلول ”
لا تصادر حقك أو حق أي إنسان في الحزن واستخدم كلمة “عندك حق ” حتى مع شريكة حياتك أو شريك حياتك .
(١٠) ..لا تجعل موضوع الحديث عنك هو محور الكلام فلا نتحدث كثيرًا عن نفسك وتستعرض إنجازاتك ..
وعندما يأتي لك شخص يشكو لك عن وجعه لا تقول له : اسكت أنا موجوع أكثر منك (تجرجره لسكة تانية وتجعل اللى عندك ييجي عنده )
هو ياتي لك ليفضفض وينفس عن وجعه، اسمعه ولا تقفل محابس التنفيس في وجهه ..
(١١) لا للإهانة …فلا تصف الذي أمامك بالغباء أو عدم القدرة على اتخاذ القرار فهذا يحطمه ويدمره نفسيا ..
(١٢) لا للجدال (عدم تحويل الحديث إلى جدال )
ولا تقل له (أنت تستاهل ) لأنك لم تسمع كلامي …

وفي النهاية

لا تجعل عواطفك تسبق عقلك ولا تجعل عقلك يتملك على عواطفك بل يجب أن تعمل توافق واتزان بينهما حتى تتمتع بصحة نفسية ..
اجعل دواسة البنزين (المشاعر والعواطف) تتوافق مع دواسة الفرامل (العقل المرشد ) حتى تعبر مركبة حياتك بسلام فتحمي نفسك من التصادمات التي تسبب لك إزعاجات وأزمات واضطرابات نفسية وعصبية واكتئابات..
حماكم الله من شر هذه الابتلاءات ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى