ليلة عودة الي الزمن الجميل
آمين العليمي.. يكتب
كأنما القمر نزل من عليائه، يطرق أبواب القرية الحزينه علي فراق الاصدقاء، ليوقظها من سباتها العتيق، يبعث الحياة في أجوائها، يرش ضوءه على وجوه ألفتها منذ زمن، كأن السماء أشفقت على أرواحنا المبعثرة، فأهدتنا هذه الليلة، ليلة زفاف لكنها ليست ككل الليالي، بل نافذة سحرية فتحت على ماضٍ لم يغادر القلب يوماً، وكأن العمر قد عاد بنا سنوات الي الخلف، فوجدنا أنفسنا فتياناً كما كنا، بصدور واسعة كالحلم، وضحكات تملأ الفضاء نشوةً وسُكْراً بغير شراب، ثَمَالةً بفرحٍ نقيٍّ لم يختلط بغبار الأيام.
في تلك الخيمه المضيئة بالمصابيح الضاحكة المستبشره بوجود اصدقاء التقوا بعد زمن متقطع، هناك حيث تتراقص الظلال على جوانب فضاء محدود بمخيم كاد ان ينفلق من سعادة اُسعد بها الجمع، حيث تعانقت أصوات الدفوف والطاسات والمرافع مع نبض القلوب، التقينا كما يلتقي الظمآن بنبع كان يظنه سراباً، وجوه غابت في غبار السنين، فإذا بها تنبثق من العتمة مشرقة كما كانت، أصوات ألفناها منذ الطفولة، قهقهات كانت ترنّ في فضاء القرية التي كانت ضيقة واليوم اصبحت قُري، وعادت الليلة كما لو لم تغب يوماً، جلسنا في دائرة الزمن، نحكي بلا حواجز، بلا أقنعة، بقلوب عارية من التصنع، نستخرج الذكريات من أعماقها واعماقنا، كأننا ننقب عن كنوز خبأناها بطفولة ساذجه ببراءه ولم ندرك قيمتها إلا الآن، كل قصة كانت شرارةً تُشعل ضحكة، كل ذكرى كانت موسيقى تعزف على أوتار القلب، كل لحظة كانت رشفة من نهر لا نرتوي منه أبداً.
العرس كان هناك، لكنه لم يكن لصاحبه بل كان لنا، العريس كان يحتفل بزواجه، أما نحن فكنّا نحتفل باستعادة أنفسنا، بإعادة رسم ملامحنا كما كنا، بملء الفراغات التي صنعتها الحياة في أرواحنا، كانت ليلة استثنائية، ليلة بدت وكأنها ليست من الدنيا، وكأنها من عالم آخر، عالم لا يخضع لقوانين الزمن، عالم فيه كل شيء ممكن، حتى أن نعود صغاراً، ولو لساعات.
غني لنا كل شئ حتى تعب واشرق الفجر شاحباً متعب من انتظارنا، رقصنا حتى خشينا أن تتوقف الأرض من فرط دهشتها بنا، قفزنا على إيقاع الالعاب الناريه التي تعانق السماء طرباً بلقاءنا وسماع ذكراياتنا، امتزجت فرحة الاطفال البريئه بأهازيج الرجال، اختلطت الأصوات حتى صار الفرح كياناً حياً يرفرف في الهواء، كأن القرية ذاتها قد ارتدت ثوب العيد، كل شيء كان يحتفل، الجدران، الأشجار، التراب، حتى السماء بدت صافيه وكأنها مالت واقتربت لتنصت، لتشهد، لتدون في دفاترها أن هذه الليلة لن تموت.
وحين أطل الفجر بخطاه المتثاقلة، وجدنا أنفسنا كما كنا قبل سنوات، لا فرق سوى بعض الشيب الذي خجل أن يظهر بيننا، وبعض التجاعيد التي بدت وكأنها انكمشت من رهبة الفرح، وكأنها اختبأت لئلا تفسد علينا لحظتنا النادرة، سكتت الدفوف، هدأت الأصوات، تنفس المكان بصمت، وكأن الليل بعد أن وهبنا معجزته، قرر أن يسدل ستاره بلطف، وأن يتركنا نحمل في صدورنا ليلة من المستحيل أن تتكرر، ليلة لن تموت، لأنها ببساطة لم تكن مجرد ليلة، بل عمر كامل عشنا فيه ما لم نجرؤ على الحلم به .