لا مرد لقضاء الله
بقلم.. ماهر اللطيف
ترجته، توسلت إليه، ألحت عليه، قبلته من كل مكان، تغزلت به وقالت له طيب الكلام وأعذبه، جربت معه كل شيء وفق ما تعرف وما تستطيع فعله، لكنها أخفقت في إقناعه أو حتى في تليين موقفه، تمهيدا لتغييره فيما بعد.
فاتجهت نحو أمها وطلبت منها التدخل السريع ومحاولة التأثير على زوجها و “رحمتها” وبقية إخوتها مثل سائر الجيران والأقارب في هذا الطقس الصيفي الحار جدا ومرافقتهم إلى البحر للاستحمام والاستجمام كسائر البشر وسكان هذه القرية التي لا تبعد كثيرا عن البحر.
وفعلا، طلبت الأم من زوجها ذلك، بل إنها ألحت وأصرت عليه بكل ما أوتيت من جهد ومقدرة، وبشتى الطرق والوسائل، حتى قال لها بنبرة حزينة جدا وصوت خافت متقطع يدل عما يشعر به المتكلم من مرارة وعذاب ويأس، وحتى عجز جزئي أو كلي:
- أتظنينني لا أشعر و لا أحس؟ ألا أتألم مثلكم وأنا أرى فلذات أكبادنا من دون أقرانهم في كل شيء؟ ألا أريد الترويح عنهم وتمكينهم من كل رغباتهم وحاجياتهم؟
- (مقاطعة بلين) إذن أين المشكل يا عزيزي؟ لنذهب جميعا لقضاء بعض الوقت على شاطئ البحر ونمكنهم من السباحة واللعب واللهو مع بقية الناس
- (مقاطعا وهو يمسك رأسه بيديه وقد تهاطلت بعض الدموع من عينيه) “العين بصيرة واليد قصيرة”، لا أملك ولو دينارا واحدا، (مبتلعا ريقه) كيف سنتنقل ومن أين سنصرف؟ أنسيت أني عامل يومي ولم أقم بأي عمل منذ أيام؟
وواصلا النقاش حتى اقتنعت الأم بالواقع ورضخت له مجبرة مع تعنت الأطفال وبكائهم وإصرارهم على الذهاب إلى البحر لأنهم لم يعودوا قادرين على تحمل هذا القر رغم تبردهم المتواصل بماء الحنفية الذي بات سخنا لا يطاق هو أيضا من شدة الحرارة.
ومع ذلك، فقد فكرت الأم في حل كالاقتراض من الجيران أو طلب العون من بعض الناس الذين تعودوا على الوقوف إلى جانبها، لكنها لم تنجح في ذلك لأنها لم تجد أحدا في منزله في هذا الطقس القاسي جدا.
لكنها تذكرت أن عطار الحي قال لها أكثر من مرة ” لا تترددي في طلب المساعدة مني كلما احتجت إلى ذلك، فأنا لن أنسى ما قمت به أنت وزوجك معي ومع عائلتي حين حرق محلي ورميتما بأنفسكما في النار قصد إطفاءها وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ولم يساعدكما أي أحد من الجيران الذين كانوا يشاهدون المشهد بتشف وحقد وغل دفين…..”, فنادت “سوار” ابنتها التي تحدثنا عنها سلفا – تسع سنوات – وكلفتها بالذهاب إلى العطار لتأتيها بالمال من عنده ليقصدوا بعدها البحر.
فوافقت البنت دون تردد وخرجت مسرعة فرحة وممنية النفس بتحقيق حلمها الجميل هذا اليوم والتمتع بمياه البحر العذبة، بعد أن أخبرت إخوتها بذلك وتبعوا خطاها جميعا مبتهجين ومغنيين…
لكنهم صدموا للأسف بعد أن وجدوا المحل مغلقا وعلموا من أحد الجيران أن صاحبه قد ذهب إلى البحر بمعية عائلته منذ الصباح الباكر، فرجعوا يجرون أذيال الخيبة والحزن يستعمر نفوسهم والدموع تنهمر من أعينهم مدرارا، إلى أن صاحت سوار فجأة بصوت عال وهي تبتسم بشدة وتقفز في الهواء”انظروا ماذا هناك أرضا، إنها ورقة نقدية من فئة خمسة دنانير”.
فحملتها، قبلتها، ورجعت مهرولة إلى أمها لتخبرها بما حصل وتعطيها ما وجدت من مال، وكان الأب يسمع الحوار فصاح مستهزئا “وهل ستحل هذه الورقة المشكل؟ إنها لا تكفي التنقل من هنا إلى المدينة، قبل أن نستقل وسيلة نقل أخرى توصلنا إلى البحر”.
فعاد الحزن واليأس وسيطرا على الأبناء، إلى أن قالت الأم بأعلى صوت متجهة بالحديث إلى بعلها “إنها ورقة من فئة خمسين دينار وليست خمسة كما قالت سوسو، الحمد والشكر لله الذي أعطانا من حيث لم نحتسب”.
ومنها، تغير الأمر كليا، واتجه الجميع صوب البحر بعد أن اقتنوا ما يحتاجون من مأكل ومشرب وغيرها، واتخذوا مكانا بين المصطافين وشرع الأبناء في السباحة مع بقية الأطفال والأقران – وخاصة أبناء وبنات حيهم الذين وجدوهم هنا في نفس المكان الذي اختارته عائلة سوار – تارة، واللعب بالرمال والكرة طورا، والتجول بين الناس طورا آخر، إلى أن نال منهم التعب وشعروا بالجوع فجهزت لهم أمهم ما يسد رمقهم ويشبع نهمهم.
وبعد وقت قصير، عاد الأطفال إلى السباحة بمعية والديهما في مرحلة أولى، قبل أن يسبحوا مع أصحابهم -حين خير الأبوان البقاء على الشاطئ مع بقية الجيران لتجاذب أطراف الحديث.
وفجأة، سمع صياح وصراخ وعويل من داخل البحر، وقفز السباحون المنقذون بسرعة وزمرة من المواطنين بعد أن ذاع خبر غرق أحد الأطفال بعد أن فقد السيطرة على نفسه وتلاعبت به الأمواج ولفظت به إلى الداخل ما إن تجرع الكثير من المياه، فغرق.
وما إن خرج السباحون المنقذون بعد فترة وقد حمل أحدهم الغريق بين يديه، حتى تبين أنه “سوار” للأسف وقد فارقت الحياة – كما أكد ذلك السباح المنقذ أولا، ثم الطبيب الشرعي الذي حضر على عين المكان – وهي في الداخل بعد ابتلاعها كمية هائلة من الماء أضرت بها وأسرعت في موتها وطي صفحتها للأبد.