
شيخ حكيم
ماهر اللطيف.. يكتب
يحكى أن شيخا عجوزا من شيوخ شمال إفريقيا اشتهر بالحكمة والدهاء والفطنة والنباهة وغيرها من الصفات الحسنة، ذاع صيته وانتشر في كل الأمصار والبلدان العربية والإسلامية، وبات حديث القاصي والداني وشغلهم الشاغل، يرجون لقاءه وعرض مشاكلهم ومصاعبهم عليه عساه يساعدهم على فك طلاسمها وحل رموزها وتذليل ما يمكن تذليله قبل الوصول إلى الحل الجذري الذي يأملونه كلما مر بديارهم في طريقه إلى الحج سنويا عبر قافلته المألوفة التي تشق الصحاري والجبال الأودية والأنهار وغيرها في طريقها إلى بكة.
فقد كان يخشى ركوب الطائرة، السفينة، الحافلة،السيارة ،وكل وسائل النقل الحديثة، كخشيته من التعامل مع مجمل ما وصل إليه ابن آدم من اختراعات واكتشافات وعلوم على غرار منصات التواصل الاجتماعي مثلا وسنوها من الإنجازات العظمى، لذلك جند بعضا من أتباعه وتلاميذه – الذين تأثروا به وتكاثروا إلى أن باتوا لا يبتعدون عنه البتة طمعا في التعلم وإتقان ما يتقنه هذا المعلم لاحقا من ناحية، وليمهروا التعايش والتصرف مع الزمان وكل مكان تطؤه أقدامهم وكل بشر يتقاطعون معه ماداموا على وجه البسيطة – وأقنعهم بضرورة تحاشي هذه الوسائل والعلوم – مع ذكر السلبيات دون الإيجابيات والتركيز على توخي الحيطة والحذر تماشيا والمقولة المعروفة “الوقاية خير من العلاج” – والعيش عيشة طبيعية، تقليدية،سالمة، قليلة الأخطار والرهانات التي لا توصل إلا إلى الخسارة والهلاك – حسبه-.
لذلك، كان يعيش عيشة بدائية – ومن معه-، يفكر في آخرته قبل دنياه، يسعى إلى إرضاء الله عبر إرضاء الناس، يصلي، يصوم، يتزكى،يتصدق، يذكر الله كثيرا في كل لحظة، يحج سنويا بما أنه يحزم حقائبه ويعزم على ذلك ما إن يحتفل بعيد الفطر المبارك ويجهز قافلته ويتوكل على اللَّـهِ في اتجاه بيت الله الحرام وهو يردد “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك”، يقتات من عود الناس له لفض مشاكلهم متى يمنون عليه بما تيسر من المال والعتاد وغيرها.
وشاءت الصدف أن مر يوما كعادته من هذه القرية وهو في طريقه إلى الحج، هذا المكان الذي يشعر فيه بالراحة والطمأنينة، الذي يقضي فيه عادة أياما معدودات قبل مواصلة الرحلة الطويلة.
من أجل هذا، كان الناس سنويا يترقبونه هنا ل”التبرك به” والاستئناس بكلامه وعبره وحكمه، وعرض ما صعب عليهم عليه، واستشارته في كل صغيرة وكبيرة، وما إليه…
ومن بين هؤلاء الزوار، كان شيخنا “يحيى” الذي نالت منه الشوائب والمحن والمشاكل حتى كادت تقسم ظهره وتجبره على والخنوع والاستسلام، قدم مع هذه الجحافل من الناس في انتظار قدوم “الشيخ الحكيم” منذ أيام.
وما هي إلا ساعات أخر حتى ذاع خبر مقدم موكب “الضيف المنتظر”، فغصت ساحة القرية بالناس الذين قدموا من كل حدب وصوب – أين يوجد البيت الذي يقيم فيه سنويا ويستقبل فيه الناس -، وبدأت الزيارات تباعا من الفجر إلى ساعات متأخرة من الليل – مع نيل قسط من الراحة كلما دخل وقت الصلاة -، إلى أن حل دور الشيخ يحي.
فولج غرفة الاستقبال، وألقى التحية على الحضور، ثم جلس مقابلا للحكيم حين أذن له بذلك وشرع في العرض، حيث أعلم الجميع أنه أب للولدين وبنت، أرمل منذ مدة، يعيش في بيته المتواضع في القرية المجاورة المتواجد على أرض شاسعة هناك، كبر أبناؤه وشاخ هو وشرعت الأمراض والعيوب في استعمار جسده المنهك أصلا، إلى أن فقد السيطرة على ذويه الذين أمسوا يتمنون موته وهلاكه ليتمتعوا بهذا البيت وهذه الأرض التي يقتاتون من خيراتها وزراعاتها المتنوعة.
كما أخبرهم أن أبناءه أضحوا أعداء لا إخوة، يختصمون،يضرب بعضهم البعض، يتبادلون السب والشتائم ،يقطعون الوصال بينهم، يقومون بكل شيء من أجل الضفر بهذه الأملاك البسيطة، وكان بكره يعرض على البقية حفنة من المال مقابل التنازل له عن كل “الإرث” بعد ممات الأب، وكذلك كان يفعل كل أخ مع إخوانه مما زاد في إشعال نار الفتنة بينهم وهو لا يزال حيٌّ يُرزَق وقد عجز عن حل هذا المشكل ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية وجبر ما تكسر بين الجميع….
وواصل عرضه قبل أن يقول له الحكيم بصوته الرصين، الواثق من نفسه:
– سأزور بيتك الليلة لأعاين المكان قبل البت في الموضوع، أرجو أن يكون الجميع هناك وقتها (ويحي يشير برأسه بالموافقة و بتواجد أبنائه بالمكان حينها)، أطلب من الجميع أن يجهز لي المال الذي ينوي إسناده إلى إخوته (يمنع يحي من مقاطعته)، على أن تدفع لي أنت ضعف هذا المبلغ برمته
– (مقاطعا ومتلعثما، ولم يفهم شيئاً) إن فعلت ذلك فلن يبقى لي مورد رزق، لن أستطيع العيش سيدي، وأبنائي غير بارين بي
-(مقاطعا وهو يبتسم في وجهه) افعل ما تؤمر به ولا تخف، ستجد ما يسرك إن شاء الله….
وبعد أن أتم عمله، انتقل الحكيم إلى ضيعة يحي ومكث هناك قليلا، تحادث مع الجميع بعد أن عاين جيدا المكان، أخذ منهم المال وطلب منهم تجهيز أنفسهم للسفر معه إلى الحج هذه السنة، على أن يبحث لهم على حل عند إتمام المناسك والعودة إلى هنا، شرط ألّا يرفثوا ولا يهذوا ولا يتحدثوا في هذا الموضوع البتة حتى حط الرحال هنا مجددا – وقد تعهد بتكفل كل مصاريف هذه الرحلة -.
غير أن الحكيم شرع في تنفيذ الحل بعد أن تدبر الأمر وخطط له جيدا – بعد عرضه على تلاميذه – واتصل بمن سيتكفل بالتنفيذ وإتمام خطته طيلة هذه الأشهر حتى عودته من بيت الله الحرام إن شاء الله.
وبعد الحج وتكبد مشاق الطرق ومخاطرها، التعرض إلى التفتيش والإيقاف أحيانا للتحقق منهم ومن متاعهم، التنمر والاستهزاء وما إليه من بعض السلط والمسؤولين الذين عبروا ترابهم وأراضيهم، كان الوصول أخيرا إلى قرية يحي وضيعته – بعد أن نجح الحكيم في رأب الشق والصدع وجمع شتات الأخوة من جهة وإصلاح علاقة الأبناء بالأب من جهة ثانية -….
وما إن وصلوا الضيعة حتى دهشوا، صدموا،تسمروا في أماكنهم هُنيهة من الزمن قبل أن يركعوا أرضا حمدا وشكرا لله، تدمع أعينهم ويستقيموا ليشكروا الحكيم شكرا جزيلا ويصرون على استضافته عندهم أياما ويهدونه ما يستطيعون إهداءه له جراء ما قام به تجاههم.
فقد أنفق الحكيم المال الذي تحصل عليه منهم جميعا وضاعفه من ماله الخاص، كلف مقاولا مختصا في البناء لتشييد بيتين مماثلين للبيت الأصلي بجانبه، شيد سورا للضيعة وبيتا صغيرا ليحيى ليقيم فيه بعيدا عنهم إن رغبوا في ذلك – وقد رفضوا الفكرة رفضوا قطعيا وتمسكوا بتواجد والدهم بينهم في البيت الأصلي الذي يقيمون فيه كالعادة وقد اعتبروه بيت أختهم مستقبلا-، حفر بئرا عميقا في الضيعة لتسهل عملية السقي والري وغيرها – وهو ما ساهم في تحسين الإنتاج والانتاجية ومزيد تنوع المزروعات والبذور وتحسن وضعية العائلة على جميع الأصعدة لاحقا -.