كتاب ومقالات

بين الحكمة والنار… حين تمشي السياسة على حوافّ اللهب.

أمين العليمي

بين الحكمة والنار… حين تمشي السياسة على حوافّ اللهب.

الدكتور امين عبدالخالق العليمي.. يكتب

ليست السياسة مغامرة على رقعة شطرنج، وليست نزهة في بساتين البلاغة والوعود، بل هي في جوهرها فنّ السير بين حقول الألغام دون أن تنفجر الحياة، ودون أن يُبتر من الوطن عصبٌ أو يُجرح من الشعب وجدان،
وفي الزمن الصعب، تصبح الكلمة قراراً، والقرار مصيراً، والمصير مشروع بقاء أو سقوط،

وحين يقرر القائد و السياسي أن يُصدر قراراً، فإنه لا يكتب سطراً على ورقة، بل يرسم ملامح مرحلة، ويعيد تشكيل التوازنات، ويصنع أو يهدم جسوراً بين الناس، أو بين الدول، أو بين الأطراف التي في الظل تنتظر،

فما الذي يجب أن يراعيه القائد والسياسيّ العاقل قبل أن يضغط على الزرّ؟
ما هي المسافات الآمنة بينه وبين فوهة الانفجار؟
وما هي الخطوط التي إن تجاوزها، لا تنكسر فقط حواجز الثقة، بل تنهار معها جدران الدولة؟

أول ما يجب أن يدركه صاحب القرار أن البيئة السياسية ليست صامتة، بل مملوءة بأعين مترقبة، وآذان متحفزة، وخصوم يتحيّنون اللحظة، وجماهير قد يخذلها الفهم أو يضللها الإعلام، أو يسبق غضبها تأملها،
فأي قرار لا يقرأ الخريطة الداخلية من تحالفات ومصالح ومزاج شعبي، هو قرار يمشي بعين واحدة نحو المجهول،

ثم يأتي همس الشريك الإقليمي والدولي، حيث لا قرار يولد في معزل عن حسابات الجوار، وعن العواصم التي وإن بدت صامتة، فإنها تسجّل وتفكر وتردّ… بصمت أو بأزمات،
فالسياسة لا تسير وحدها، بل تُراقب، وتُحاسب، وتُفسَّر بألف وجه،
ومن لم يتقن قراءة المواقف الخارجية، وجد نفسه يقاتل على أكثر من جبهة دون سلاح ولا ظهير،

أما التوقيت، فهو سرّ من أسرار الكبار،
فالقرار الذي يتأخر يتحول إلى ضعف، والذي يُعلن في ساعة خاطئة يتحول إلى فتيل غضب،
فبين الصبر والعجلة، هناك لحظة ذهبية لا يعرفها إلا من كان قلبه مع الناس، وعقله مع الدولة، وروحه مع الحكمة،

ويبقى السؤال الأهم:
كيف يُتخذ القرار؟
لا يُتخذ من برج عاجي، ولا من ثرثرة النخب، ولا من دفتر الأمنيات،
بل من مشاورة صادقة، ونقاش عميق، ومن استماع لا إلى من يصفق، بل إلى من يُحذر ويخالف وينقُد بأدب،

التكتيك هنا فنّ إدارة القرار، لا مجرد إعلانه،
فلا يُرمى القرار كقنبلة، بل يُقدَّم كضرورة، يُشرح كدواء، ويُمهَّد له كطريق بين جبلين،
ويُقسَّم إن كان مراً، ويُسند بحلفاء إن كان جريئاً، ويُجمّل بلغة العقل إن كان مؤلماً،
ومن ظن أن القرار هو إعلانٌ في نشرة أخبار، فليعلم أن النشرات تمضي، لكن الجراح التي تخلفها تبقى طويلاً،

ولا بد من احتواء المتضررين، لا بإقصائهم، بل بإشراكهم في مسار جديد، يُخفف عنهم صدمة الخسارة، ويُشعرهم أنهم لم يُقصَوا بل أُعيد ترتيب المشهد فقط،

والأخطر من اتخاذ القرار، هو تجاهل الردود المحتملة عليه،
فكم من قرار حرك المجهول، وأيقظ الساكن، وأثار الخائف، وأخرج الحاقد من جحره،
وهنا لا يكون الرد بالعنف ولا بالعناد، بل بالحكمة التي تُفكك الأزمات، وتعيد هندسة المواقف بصبر وشجاعة واحتواء،

ومن الحكمة ألا تنسى القيادة أن الناس تحب أن تفهم، لا أن تُفاجأ،
فالقرار الذي لا يُشرح، يُهاجم،
والذي لا يُبرر، يُكذَّب،
والذي لا يُروّج له بحكمة الإعلام، يُسحب من تحته بساط الشرعية ولو كان صائباً،

السياسة لا تحب الأبطال المتهورين، بل تحب العاقلين الذين يمسكون الجمر باليد المرتجفة، دون أن يسقطوه، ودون أن يحرقوا به أحداً،

إن القرار السياسي ليس سيفاً يقطع، بل ميزانٌ دقيق توزَن فيه المصالح والمفاسد، العواطف والعقول، الداخل والخارج، الحاضر والمستقبل،

وإذا كانت الحروب تُخاض بالسلاح، فإن السياسات تُخاض بالكلمة، وبالإشارة، وبالسكوت أحياناً أكثر من القول،

فكن إذا قررت، شجاعاً في الفعل، حكيماً في التوقيت، مرناً في الخطاب، عادلاً في التطبيق، ومستعداً لاحتواء ما لا يُحتوى،

هكذا تُصنع الدول… وهكذا يُصنع القادة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى