وجهان لقصةٍ عجيبة
كريم ربيع.. يكتب
قد لا يختلف اثنان من هواة القراءة على دور النص الأدبي المُتميز في توسِعة مدارِك القارئ، وشحذِ فكرِه، وفتح أبواب انطلاق مُخيلته للتحليق في سماواتٍ لا محدودة من الإبداع العقلي، وربما صادف خلال نُزهة ذهنه المُبهجة في بساتين الأدب نصًا يوقد نارًا تستفزُّ جانبًا خفيًا من ذاته، أو ذكرى كان لها أعظم الأثر في نفسِه، مؤديًا دورًا دراميًا سحريًا في تطهير تلك الروح وتشافيها من آلامٍ مسَّتها وأوجاعٍ داسَتها من حيث لا يرى البشر آثارها، وهو ما صادفتُهُ خلال تجوال بصري بين سطور قصة “ثقوب في القلب” للقاص البحريني “مهدي عبدالله” من مجموعته المُعنونةُ بعنوان: “قصصٌ ظامئة”، بل بلغَ تأثير تلك القصة بوجداني مبلغًا ارتأيتُ معهُ أنني لو كُنتُ محظوظ بكتابة تلك المجموعة لاخترتُ أن يكون عنوانها هو عنوان القصة بدلاً من العنوان الذي ارتدَتهُ على غِلافها لتكونَ ملِكتها وسيِّدتها وصاحِبة الحُظوة منها
تمتاز تلك القصة بكونها ذات طابعٍ غرائبيٍ مُقارنةً بالخط القصصي للقاص “مهدي عبدالله” الذي يلحظ قارئ مجموعاته ميل قصصها لالتقاط صورةٍ واقعية من حياة المُجتمع ثم الاشتغال عليها لتُقدَّم إلى القُرَّاء بأسلوبٍ يختار أن يكون تأثيرهُ هادئًا خاليًا من العُنفِ، إلا أن “ثقوبٌ في القلب” أبَت إلا أن تنفرِد بعالمها الصادم وتأثيرها المُثير
تحكي القصة باختصارٍ حكاية فأرٍ متوحشٍ انقض بغتة على صدر بطل تلك القصة ليحفر في جدار قلبه بأسنانه وأظافره ليدور في دوَّامة تدفق الدماء والقيء وطلب النجدة دون مُجيب، فما كان منه إلا مُحاولة التحاور مع الفأر لعلهُ يرحمه بمُغادرة مكانه، خلصت المفاوضات إلى اتفاق بينمهما يقضي بإطعامه الكثير من الجُبن مُقابل خروجه؛ غير أن العدو كان مُخادعًا كاذبًا يرفض تنفيذ وعده.. خرج البطل إلى الشارع سائلاً المُساعدة من عابري السبيل وإذا ببعضهم يتجاهل وبعض آخر يعتذر وبعض آخر يضحك ساخرًا من أوجاعه ثم يُغادر، إلى أن لمح قطًا صغيرا استنجد به، فطلب منه إدخاله إلى جسده ليُخلصه من شر الفأر، لكن القط بعد دخوله رفض الخروج مُبتزًا مالك الجسد المُحتل بطلب عشرة آلاف دينار مُقابل خروجه، وهو مبلغٌ ما كان الرجل يملك عُشره، وسارت أحداث القصة حتى قادتهُ إلى المستشفى حيثُ أنقذتهُ عمليةٌ جراحية عاجلة من الدخيلين المُبتزَّين.
للحكاية وجهين: وجهٌ عامٌ نرى فيه احتلال الأوطان وتحالف المُحتل مع حليف الوطن، ووجهٌ خاصٌ لذاك البلاء الذي لا يكاد أحدنا يمضي قُدُمًا في حياته دون أن يغرق في دياجِيره ولا تحظى صرخاته بسامع أو مُنقِذ من البشر، وإذا زعم أحدهم قُدرته على المُساعدة سُرعان ما تتكشف حقيقته عن شيطانٍ ما كان يبغي غير الابتزاز ومُضاعفة الثقل الذي يسحب المُبتلى إلى الغرق أعمق، حيثُ لا مُنقذ إلا رب العالمين.. وإذا نزلت رحمة السماء على المظلوم لتنتشله بما يُشبه المُعجزة تظل نفسهُ عليلةً زمنًا طويلاً تئن تحت وطأة جراحٍ يصعب التئامها جرَّاء فقدانه بذاته وبمن حوله وبقوانين العدل في الحياة الدنيا، وهو ما يُذكرنا به قول الطبيب لبطل القصة حين سألهُ عن قلبه المُنتَهَك: “مُصابٌ بجروحٍ كثيرة، وحدثت به ثقوبٌ عميقة لن تلتئم إلا بعد فترةٍ طويلة”.
ما أكثر الذين احتلَّهم فأرٌ على حين بغتة، وخذلهم قطٌ مُبتز، وسخرت من آلامهم غير المرئيَّة جموع المُحيطين بهم، ولم يجدوا طريق الخلاص إلا بصعوبة، ومازالت خدوش وحروق تلك التجارب تنتظر ما يمحيها من على جُدران الوجدان.