كتاب ومقالات

نذير بن دانية التأثير النفسي للتمثيل على المسرح

وقت النشر : 2022/10/31 10:13:03 PM

حاورته : عائشة عمي

الفن المسرحي كما يقال عنه إنه من أشكال الأداء الفني يعتمد بالدرجة الأولى على التواصل مابين المؤدي الذي يعمل على الإرسال إلى المشاهد الخطاب الذي تكتبه المشاهد الدرامية على خشبة المسرح ويقال أنه يهدف إلى إحداث تغيير في الفكر واتجاه المتواصل من خلال لغة الحوار ولغة التعبير على الخشبة باستعمال أدوات المسرح الحركة والايماءات و الاضاءة ومختلف المؤثرات الصوتية والموسيقية.
وهذه اللغة لا تكون وليدة الصدفة وليست عشوائية وإنما بعد تخطيط ودراسة حثيثة.

هنا طرحنا السؤال الآتي :

“كيف يتم التأثير النفسي للتمثيل على خشبة المسرح على المتلقي”

وبهذا استعنا بالاجابة عن هذه التساؤلات من الأستاذ نذير بن دانية مدرب التنمية البشرية و متخصص في فن الالقاء والحركة على المنصة .

أولًا ماذا يعني التأثير النفسي في مجالكُم ؟؟؟

التأثير النفسي في مجال التدريب أو الإلقاء بصفة خاصة هي قدرة الملقي على أن يضع المتلقي في خيمة ينسجُها بلغته المنطوقة وغير المنطوقة – المُختارة بعناية – نقطة نُقطة.. ثم يملأ جوّها بما يُريد.. وغايتهُ في ذلك أن تكون ردّةُ فعل المتلقي كما يُريد.. فهي مهارة إدخال المتلقي أو الجمهور في حيز من الأداء العالي والذي يعتمدُ على تكتيكات مُتداخلة من البرمجة اللّغوية وتقنيات التّواصل الفعّال ومهارات التّوجيه المُركز ولفتِ الانتباه والتي تُؤثرُ على نفسيته وتملأ خزّان مِخيّالهِ من المداركِ المُتنوعة والخبرَات والتّجارب الشّعورية المُختلفة.. بذلك تكونُ نظرتهُ للصّورة أمامه وقراراته وقناعاته وسلوكياته بالشّكل المُخطط له سلفاً من طرف المُلقي أو المتحدّث.. فيتحقّق التأثير النفسي أو السّيطرة لتوجيه الشّخص أو الجمهور إلى الهدف المطلُوب.

وفي مجال التمثيل وأخصّ المسرح بالذّات.. عندنا مُمثلون وعندنا جمهور ذواق وتختلف درجة المعرفة والثقافة لديه من فردٍ لآخر..

كيف تكونُ الرّسالة المُرسلة أكثر تأثيراً وفاعلية في نفس المُتلقي ؟

منَ المؤكد بأن درجة تأثير المُلقي على المتلقي تختلف من شخص لآخر.. وهذا ما يُسمى عند أهل الدّراية بالفوارق الفردية.. وهذا من أبجديات ما يجبُ أن يدركهُ كل أستاذٍ في مجال التربية.. فالتلاميذُ ورغم تساوي أعمارهم إلاّ أن تفاعُلهم يختلفُ مع ما يقدمه الأستاذ من مادة معرفية.. فهناك من يفهم كلّ شيء.. وهُناك من لا يفهم أيّ شيء.. وهُناك بينهُما نسبٌ متفاوتة.. وذات المعنى ينسحبُ على مجالِ التمثيل والمسرح كما ذكرتُم في سُؤالكم.. فالتّمثيل فرعٌ من فُروع الإلقاء ويُقال فيه ذات ما يقالُ في فن الإلقاء.. فهو وجهٌ من أوجهِ فنّ استمالة الجَماهير.. المُمثلون يأخذُون على المَسرح وضعية المُلقي والجُمهور في المُدرّج يأخذ وضعية المتلقي..

هبْ أن المُمثلين يقدّمون مسرحية بعنوان “تحدّي الفقر” .. فمن البيّن أنّ الجمهور سيختلف في تفاعله وتأثره بالمسرحية.. فالأكثر فقراً في الجُمهور هو الأكثر إحساساً وتفاعلاً مع ما يحدُثُ أمامهُ من مشاهد تمثيلية فهو يُعايشها واقعياً ويُصارعُ الفاقة من أجل الحَياة يومياً..

أمّا لو كان من الجمهور صاحب مالٍ وغنى وإن تأثر فلن يكون بدرجة ذاك الفقير.. لماذا؟
ببساطة لأن الفوارق الفردية هي التي سبّبت الفوارق التفاعلية مع العرض.. وعلى هذا النحو أسرد أمثلة أخرى للتوضيح:

فإذا قدّم المُمثلون مسرحية بعنوان “القضية الفلسطينية” فالأكثرُ تأثراً من الجمهور هم الأكثر إيمانا بالقضية ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

وإذا قدموا عرضاً بعنوان “العدل” فالأكثر تأثراً من الجمهُور هم الأكثر مُعاناة من الظلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.

وممّا أذكره أيام الجامعة صديقٌ لي يمني أعطاني تسجيلات لمسرحية بعنوان “النّخوة العربية” وأخرى بعنوان ” الشّارع العربي” من بطولة المُمثل المُبدع صلاح الوافي ولأن هذا الأخير أبدع مع مجموعة من المُمثّلين في أداء هاتين المسرحيتين وحَبْكِ معانيهما واختيار رمُوزهما فكنتُ أشاهدهُما في الأسبوع أكثر من مرّة بل وأدعُو كلّ أصدقائي لمشاهدتهما..

فالسؤال: لماذا كلّ هذا التأثر يا تُرى ؟؟

لأنها لامست وتراً حياً في فُؤادي.. وأعلمُ يقينا بأن تأثر المُشاهِد أياً كان سيكونُ مُتعلقاً بمقدار اهتمامه بمجد الأمة ونهضتها.. فمن اقترب زاد تأثره ومن ابتعد قلّ تأثره والحكمةُ هي أن ” ليس كلّ ما يأخذُ في نفسك حيزاً كبيراً من التأثر يأخذهُ في نفس شخصٍ آخر.. بل المتحكم في ذلك هو اختلاف خزّان الذكريات والمستوى العلمي والثّقافي والتّجارب والمدارك التي يرجعُ إليها كل واحد منّا”.. لأنها بعد مدة من الزمن تتحول إلى أزرار تتحكم في المشاعر وتُسيطر على ردّات الفعل النّفسية وبالتالي السّلوكية .. فإذا صادفتَ عرضاً أو مَوقفاً أو مُحاضرة تشبهُ ما مررتَ به بالأمس سوف يُضغط زرّ حالتك النفسية لتستحضر ذات المشاعر وتتفاعل مع الحدث بقوة.. وإذا ما افتُقد الزّر الذي يربطُ حاضرك بماضيك فلن يحدُث التأثُّر النّفسي بالقدر الكبير..

وهُنا أقول اختصاراً.. من أنبل الحيل التي ننصحُ بها كلّ من يُريد أن يقدم عرضاً أمام الناس ويُؤثر فيهم باختلاف مستوياتهم هو أن يستعمل ما يستعمله الفيزيائيون وهو البحثُ عن المتوسط، وهي نقطة تقاطع المتوسطات في أي شكل هندسي، أي لابدّ منك كمحاضر أو كممثل على المسرح أن تختار المادة التي تُلامس الجميع قدر المُستطاع دون أن تُقصي فئةً بكاملها.. وبهذا الشرط فقط يمكنُ أن يكون الأثر قوياً والتأثير شاملاً..

العروض المسرحية كما هو معروف هي شكل من أشكال التّعبير والتّواصل بين المُؤدي وبين المستقبل.. قناة الاتصال والتّواصل هُنا كيف تكون ؟

من الملاحظ أن المرء عندما يدخل لمشاهدة مسرحية عندما يدخل يكون بشعور مُعين وعندما يفرغ من مُشاهدتها يخرج بشعور مختلف. هل فعلاً أن الإنسان يتهرب من واقعة المعاش والضغوطات إلى عالم الفكاهة والخيال لينسى ؟؟؟؟

سؤالك فيه شقّين:
فأمّا الأول.. خُروج المرء من المسرح على غير النفسية التي دخل بها.. دليلٌ بأن الممثلين بمستوى أدائهم العالي نجحوا في نَصْبِ الخيمة فوق كيان هذا الشّخص فوصل إلى درجة الاتصال بالمشهد وهذا نفس ما يحدث للأم أو الاخت حينما ندخل إلى البيت فنجدها تشاهد مسلسلات وتبكي أو تضحك.. فنبحثُ عن سبب بُكائها أو بهجتها.. فإذا هو حُزنها أو فرحُها على ما يحدثُ للبطلة مثلا.. فماذا حدث؟
الحقيقة أن التكتيكات التي أُنتج بها المُسلسل أو قُدمت بها المسرحية تُوصل المُشاهد في لحظة فارقة إلى درجة الاتصال الكامل حيثُ لا ينتبهُ إلى كونهِ مُنفصلاً عن المسرحية أو المسلسل بل يرى نفسه جزءا منها.. فتكون أفكارهُ و مشاعره و سلوكياته متصلة لا منفصلة فيكون التأثير النفسي بليغ.. فيبكي لموت البطل ويسعد لنجاة البطل وقد يقلدّ البطل في تصرفاته في حياته اليومية وما “وادي الذئاب”عنّا ببعيد وأنا ممّن لم أشاهد فيه أيّ حلقة لكنّني شاهدتُ الكثير من الشّباب المُتصل به وقد أحدثُوا جرائم على نهج المُسلسل.. فهُم في اتصال تام معه وانفصال تام مع العالم..

ومن باب الطّرفة أنه عام 2006م كانت لي أول مرة أشاهد فيها مسرحية على المباشر.. وكان ذلك في إحدى الاقامات الجامعية بولاية باتنة.. كانت تحت عنوان “ليام” أي هكذا هي أيامنا تتحدث إجمالا عن الحياة ومصاعبها وتحدياتها.. وبعد بدء العرض ساد الصّمت في القاعة وشيئا فشيئاً بدأ الممثلون ينسجُون خيوط الخيمة وبدأت الأحداثُ والمشاهد تتوالى وبعد مرور قرابة 40 دقيقة.. أحسستُ بشيء بَاردٍ يسيلُ على خذي فرفعتُ يدي فإذا بعيني تذرف الدمع فذُهلتُ حقاً!!

مِنْ يومها عرفتُ لماذا يُسمّى المسرحُ بأبي الفُنون وكم يختزنُ من قُوة ناعمة يُؤثر بها على من يدخله.. نعم وصلتُ إلى درجة الاتصال التام بالعرض والانفصال التام عن العالم.. وهنا حركتني الأحداث ودفعتني أمواجهُ إلى الشاطئ الذي أرادهُ الممثلُون دُون أن أدري.

من هُنا أتكلم عن الشّق الثاني وهو هل فعلا يتهربُ الانسان من واقعه المُعاش والضّغوطات إلى عالم الفكاهة والخيال لينسى ؟

أجيبُ.. نعم الكثير منّا حينما يتعرض لضغوطات كبيرة يهرب إلى ملجأين أحدهما سلبي يزيد الطين بلة وهو اللجوء إلى الادمان على المخدرات والمسكرات وما شابهها بنية النسيان وهذا ما لا ندعو إليه البتة.. وأمّا الملجأُ الآخر فقد يُخفف من وطأة هذه الضغوط. كمشاهدة بعض المسرحيات والفكاهة والرياضة وغيرها.. وما يفعله هؤلاء هو ذات ما فصّلنا فيه في السؤال السابق.. فيعمدُ هذا الشخص لمتابعة مسلسلات أو مقاطع مضحكة أو مباريات كروية حتى يصل حدّ الاتصال التام معها.. فينفصل عن عالمه وينسى شيئا من ضغوط الحياة عليه.. ويبقى هكذا وإن كان هذا الحل يُزيحُ عنه شئيا من الأعباء لكنها للأسف غير دائمة وما أدعوه إليه هو التضرع لله بأن يُفرج همّه وكربه وله بين فينة وأخرى أن يمارس الرياضة أو يشاهد مسرحية أو مقاطع فكاهية.. كي لا يُحس بالرتابة فترتدّ عليه أطنان الهموم..

عندما نقول مسرح فنحن نشير إلى لغة الحوار و لغة السينوغرافيا التي تشمل الديكور ودرجة الاضاءة ومختلف التفاصيل الأخرى المهمة هنا يحضر إلقاء الممثل سواء كانت نبرته عالية ، متوسطة ، منخفضة في رأيك كيف يكون تأثير ذلك على المستمع ؟؟؟

يعرّف أهلُ التمثيل “السينوغرافيا” بأنه فن تنسيق الفضاء المسرحي والتحكم في شكله بهدف تحقيق أهداف العرض المسرحي… وهذا بالذات ما وصفناه بالخيمة التي يملأ جوّها كل ما يستلبُ قلب ولبّ المشاهد للعرض وتحت هذه الخيمة تجري الأحداث ويتم تأثيثُها بعدد من العلامات السّمعية والبَصرية والحسيّة بهدف تجلية معاني النص.. ولعلمكم فإن الناس يختلفون في أنظمتهم التمثيلية..

فهناك بصريون يتأثرون بالألوان والصور والديكور واللباس والأحجام والأشكال ويحبون سرعة الحركة ونبرة الصوت العالية.. وهناك سمعيون يتأثرون بالأصوات والهدوء والعقلانية والايقاع والشعر والفترة الزمنية ويميلون إلى الحكمة والتوسط في سرعة الحركة..

وهناك حسّيُون يتأثرون بالجو بارد دافئ والأجواء المفعمة بالتفاعل ويحبون النكتة ويميلون للحركة البطيئة.. وغيرها من التفاصيل الدقيقة التي على الممثل أن يدركها ليكون أداؤه بالمستوى الذي يلامس الأنظمة الثلاثة مع بعض.
كما أن حضور المُمثل الباهر على المنصّة يعتمدُ على لغتين أساسيتين وهما:

أولاً: لغة منطوقة تُعنى بالكلمات ومعجم المصطلحات الذي يستعمله.
ثانياً: لغة غير منطوقة تُعنى بنبرة الصّوت ولغة الجسد.

وقد توصل فريق من الباحثين الإنجليز عام 1970م إلى دراسة مفادها أن نسب تأثير عناصر الاتصال في المستقبل تكون موزعة على النحو التالي:
-تأثير الكلمات على الجمهور بنسبة 7%
-تأثير نبرة الصوت على الجمهور بنسبة 38 %
-تأثير لغة الجسد على الجمهور بنسبة 55 %
فمعرفة الأنظمة الثلاثة والتحكم في الأركان الثلاثة واجب أن يعتمدُها المُمثل على منصة العرض.. فإذا تمرّن عليها وتمرّسها فستكونُ قدرتهُ رهيبة في صناعة الحيز الذي يشدّ إليه جمهوره ليُحدث فيهم الأثر البليغ.. فينجحُ في إبكائهم حين يُريد وينجحُ.. في إضحاكهم حين يُريد.. وينجح في تحفيزهم إذا شاء.. وهنا يكمنُ تحكّمُهُ في المهارة.

هل ممكن أن تقدم لنا خلاصة الخلاصة بشكل عام حول التأثير النفسي للمثل على خشبة المسرح بالنسبة للمتلقي من الناحية السلوكية والنفسية؟

في خلاصة وجيزة.. أقول بأننا نستطيع أن ننتقل من فهم ضيق للمسرح والتمثيل على أنه فرجة إلى فهم أوسع يجعل من المسرح والتمثيل علاج لبعض الحالات النفسية التي تحتاج إلى إنفاذ الرسالة بداخلها عبر عروض تعتمد الاحترافية وتحمل الرسالة وتؤثر في العمق.

وقد يشاركُ هؤلاء الذين يعانون من هذه الضغوط في أداء بعض الأدوار التمثيلية كي تُفرغ شحناتهم السلبية وتخفف من قلقهم وتوترهم وهذا أطلق عليه المختصون” السيكو دراما” وبهذه المدارك.. أعتقد أنه يمكننا أن نعالج الكثير من هؤلاء ويتحولون من محطمين نفسيا إلى واثقين وزارعين للثقة في أنفس أناس آخرين..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى