بقلم الباحث د . صالح وهبة
ألم يحدث إنك غضبت من زميل لك وقاطعته، وبعدها اكتشفت إنك ظلمته وندمت على ما فعلته لأنه كان عكس ما توقعته ؟!
ألم يتصادف إنك وقعت في حب فتاة “fall in love” لدرجة تقدمت لطلب يدها ومشاعرك المتوهجة نحوها “ركنت عقلك على جنب” وبعدها اكتشفت إنك اتخدعت ؟!
هل حدث أن زوجتك تعصبت على غير عادتها، وانفعالك وغضبك كان على” قاب قوسين أو أدني ” سيوصلك للانفصال وبعدها عرفت أنها
كانت تحت ضغوط نفسية لم تبح بها ؟!
أتدري ما السبب في كل ماحدث؟! ..ومن المسؤول ؟
حقيقة..السبب هو استشعارك للمشاعر دفعة واحدة وكأنك تتجرع جرعة مركزة من القهوة تفترش مرارتها اللسان وتلدغه بشدة، هذه اللدغة فاتورتها غالية جدا وأول من يقوم بتسديدها هو “انت ” من لوم وندم وجلد ذات ،
كل هذا بسبب فشلك في إدارة مشاعرك، بسبب فشلك في مواجهة انفعالاتك، بسبب فشلك في عدم إحداث توازن بين تقلبات مشاعرك وحسابات عقلك .
لكن ما الحل ؟
الحل يكمن في ضبط المشاعر ..في فهم الذات وخاصة نحن كبشر مخلوقات عاطفية بالفطرة، عواطفنا تسبق عقولنا وتأخذ مساحة أكبر من مساحة العقل ،
ويجب أن ندرك جيدا : يوجد صراع دائم بين العقل والمشاعر والتوافق بينهما لايتم إلا بمواجهة مشاعرنا بعمل حوار صحي بينهما لحدوث اتزان واتخاذ قرار صائب.
مثال توضيحي:
شخص ما ، تمادى في مضايقتك “غلس عليك” غضبك يقول : لازم يتعاقب ..لازم تقاطعه ولا تتعامل معه، عقلك يقول : (ممكن أعاتبه..ممكن أصالحه ..) وهنا يبدأ الصراع وتهدأ العاصفة عندما تعرف تتعامل معهما (تعطي كل واحد حقه ..عندما تعطي المشاعر حقها مضبوط بحيث لا تتعارض مع العقل ) بمعنى آخر : لا تجرح المشاعر على حساب العقل ولا تجرح العقل على حساب المشاعر ..
“هذا هو التصالح مع النفس”
من أقوالي في هذا السياق : عقل بدون عاطفة لوغاريتمات صعبة ، مشاعر بدون عقل كطفل ينبهر بلعبة، عندما تتوافق المشاعر مع العقل تكتمل الحكمة.
مثال آخر..
ذاهب إلى عملك بسيارتك وفجأة وجدت شخص يقترب منك من الخلف بسيارته وكاد يكون على قدر أنملة في أن يلتحم بك مع كلاكسات مستمرة ، تخيل مالذي يتحرك بداخلك ؟ غضبك أم عقلك ؟
أكيد غضبك، ففي هذه اللحظات الحرجة لا يوجد أدنى تفكير لحسابات العقل مثل (معه حالة مرضية حرجة .. عنده امتحان وتأخر عليه .. عنده مؤتمر مهم ….) عقلك في هذه اللحظات خارج الخدمة out of order ..
أنت في هذه اللحظات غاضب جدا والدم يغلي في عروقك ونازل (تضرب وتتخانق)، فجأة وجدت هذا الشخص يأخذك بالأحضان قائلا:(مش حضرتك الأستاذ”فلان “اللي كنت بتدرس لنا رياضيات في ثالثة ثانوي ؟
على الفور مشاعر غضبك المتوهجة تحولت لمشاعر حب واستلطاف .
هذا دليل أن مشاعرنا دائما متغيرة ..ودائمآ مشاعرنا تسبق عقولنا ،
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الزمن بين المشاعر والفكرة سبع ثوان، والإنسان الناضج ممكن يأخذ زمن أقل من ذلك بل ممكن ( في لحظتها ، ممكن في ثانية ) في التعامل ومواجهة مشاعره وحسم النزاع .
وسنقدم في هذا البحث روشتة علاجية لضبط مشاعرنا ؛ ولما كان من الضرورة معرفة الأسباب أولا التي وصلتنا لهذه النتائج ومعرفة المرض قبل العرض،
كان ولابد سرد الأخطاء التي يعملها الشخص عند مواجهة مشاعره أولًا ..قبل تقديم الروشتة العلاجية.
أخطاء في مواجهة المشاعر mistakes in facing emotions
المشاعر جميلة جدا وأهمها مشاعر الحب ومشاعر الغضب ومشاعر الحزن ، فما أكثر قصص الحب التي غيرت عالم بأكمله ومشاعر الحزن التي صنعت شعراء وأدباء ، ومشاعر الغضب التي صنعت حضارات بثورتها على الظلم والفساد،
ومن أهم الأخطاء التي نقع فيها عند مواجهة مشاعرنا هي
أولا ..التفكير في آلام الماضي لفترة طويلة
thinking of the past pain for long time
من حقك تفكر وتحترم ألمك لكن لا تجتره بصفة مستمرة لأنك لا تستطيع أن تغير شيئًا بل تستهلك طاقتك اليومية وستخسر بهجة اللحظة الحاضرة التي تعيشها، وما أجملها لحظة “العمر لحظة” .
يجب أن نعرف “مشاعرنا غير قابلة للقسمة مثل زمن الساعات والدقائق ، مشاعرنا مجموعة لحظات مستمرة بالحضور ، نتعرف على الماضي من خلال الحاضر فعندما نعيشه بإحساس التذكر نسميه ماضي وعندما نعيشه بإحساس التوقع نسميه مستقبل ، وهذه الإحساسات والمشاعر كنهر متدفق ، متجدد المياه دائما والفواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل فواصل وهمية لأن هذه اللحظات الثلاث متداخلة في بعضها البعض والذي يقوم بتعيين اللحظة في الشعور هو “الانتباه ” فيضع خط تحت إحساساتنا ومشاعرنا فيخيل إلينا إننا وقفنا لحظة والحقيقة لا وقوف أبدًا.
فلا تعلق أثر غضب أو حزن يعلق بداخلك، فالزعل طاقة تجعل المشاعر emotions تنفجر في مواجهة العقل فعندما نستقبل المشاعر وتصل إلى المخ سرعان ما تتحول لردود أفعال تلقائيا .
انتبه!!!!!..
اولاً.. مطلوب منك عندما تحس بضيق أو زعل ، واجه مشاعرك حتى لا يعلق الزعل داخلك بطاقة سلبية ،
والجدير بالذكر توجد منطقة في المخ تسمى “مراكز المشاعر ” وهي المنطقة التي يتم فيها التفاعل الحاد للمشاعر مثل (غضب حاد .. حزن حاد .. حب حاد ) وتختلف في درجتها من شخص لآخر ، فيه شخص لا يهتم (نظام تنبلة) وآخر من أقل كلمة يثور وينفعل ويغضب .
2.. صحيح لا تستطيع أن تمنع طيور الحزن من أن تحلق فوق رأسك ، لكن تستطيع أن تمنعها من أن تعشعش في شعرك .
ثانيا .. العزلة isolation
عندما يحس الإنسان بضيق لا يرغب في الكلام مع أحد فيترتب عليه أن يفقد علاقاته الاجتماعية ويخسر أصحابه ويشعر بالوحدة لكن عندما يتحدث مع الناس يفضفض عن نفسه، …”العزلة قتل بطىء للنفس ” .
ثالثا .. عادات خاطئة wrong habits ..
عندما يفشل الإنسان في مواجهة مشاعره ، هذا يقوده إلى ما يسمى “هنهنة النفس” فيتجه لعادات سيئة ليبسطها مثل ( الإدمان ..التدخين .. الفيس بوك ..) فبدل ما يحول حزنه إلى طاقة إيجابية يحولها لطاقة سلبية ، (مش عارف يطلع مشاعره يطلعها في نفسين دخان )
رابعا .. ينفس عن نفسه “في الناس …”transferring aggression“…
(واحدة زعلانة مع زوجها تفش همها في العيال)….
بدل ما تتعامل مع زعلك وتتصالح مع نفسك تطلع زعلك على الناس (عصبية .. غضب .. سخرية..)
خامسا.. الجروح .. “ wounds “
عندما يفقد الشخص السيطرة على مشاعره، يبدأ في تجريح نفسه.. ويقول لنفسه : أنت لا تستحقين أن تكونيي مبسوطة ) والتجريح نوعان (١)..نفسي مثل (الاكتئاب .. العزلة .. الشعور بالذنب .. الآلام النفسية..) .. (٢) ..جسدي .. يصل به الإنسان لإحداث جروح في مناطق متفرقة في جسده “physical abuse “..
وأحيانا (يشد في شعره) “pull his hair out “
بدل ما يشد في الناس ، ويأكل بشراهة ويتجه لعلاقات جسدية محرمة .
العلاج ..the treatment
(١) ..”تعامل مع الحدث كما هو ، وتقبله “
(اقبل إنك متضايق ) لا تغضب على نفسك ولا على الناس ، لاتجرح في نفسك ولا تجرح في الناس، لا تلوم نفسك ولا تلوم الناس ،
فمثلًا.. طالب ثانوية عامة حصل على درجة منخفضة فيقول :(الامتحان صعب ..الوقت غير كاف.. الأسئلة طويلة .. لا يوجد شرح في المدرسة ..
ظلموني في تقدير الدرجات ..)
الحقيقة .. كل هذا هروب من المواجهة فأنت السبب في كل ما حدث لك بدليل فيه طلاب تفوقت وحصلت على أعلى الدرجات .
وفي هذا السياق تحضرني قصة:شركة بدأت تتقهقر وبدأ إنتاجها يضعف وبدأ الموظفون يتذمروا من ضعف رواتبهم وأبلغوا المدير بأنهم يريدون تقديم استقالاتهم لكن المدير أخبرهم أن السبب في انهيار الشركة شخص عرفناه ولحسن الحظ هذا الشخص توفى ففرح الموظفون، واستطرد المدير قائلا : إكرامًا للميت سنعمل له حفلة تأبين وأحضر الصندوق الذي به الميت (وفي الحقيقة لا يوجد ميت بل كانت خدعة من المدير ) وكان الصندوق بداخله مرآة وطلب منهم أن ينتظموا في صف ، وكل واحد منهم يلقي نظرة على الصندوق ويمشي فنظر الأول على الصندوق فوجد صورته ورأى هذه الجملة “أنت المسؤول في كل ماحدث “وهكذا الثاني والثالث حتى الأخير، ومن هنا أدرك كل منهم أن المدير يريد توصيل رسالة لهم وهي : “أن كل واحد منكم مسؤول عما حدث ، وبسبب تذمره وشكواه وعدم فهمه لأخطائه سبب العديد من الأخطاء..
فكوني أجلب لنفسي الغضب في اللحظة الحالية، هذا هو الخطأ بعينه، فاللحظة الحالية مليئة بالإيجابيات ، فبالرغم من وجود حاجات كثيرة لا تعجبني لكن عندما أنظر إلى الإيجابيات أستطيع التعامل مع المشكلة..
(٢)..”اجعل لك أصحاب يحيطون بك “
وتعمل معهم ( حوارات .. لقاءات اسبوعية..زيارات..) حرك نفسك واخرج من شرنقة العزلة ومارس هواياتك المفضلة .
(٣)غير مسار تفكيرك..
تحكم في أفكارك ولا توقفها بمعنى ضع فكرة محل فكرة (replacing ) لأن إلحاح الأفكار السلبية عليك لا تستطيع إيقافها بالتجاهل بل استبدالها بأشياء إيجابية .
مثلا : شخص أخطأ في حقك وقال لك كلمة بايخة ، لا تجعل هذه الفكرة تسيطر عليك بل أعد صياغتها بطريقة ثانية مثل ( كان يهزر ولا يقصد إهانتي )، حول الفكرة من شيء متسلط على عقلك باسم ثان ، بذلك تربح دماغك (give the dog a good name)
(٤) ..”ضع نفسك مكان الآخر “
حتى تستطيع فهم مشاعرك أكثر فمثلا : أنا جالس بمكتبي وشايف رقم ٧ والجالس في الجهة المقابلة شايف رقم ٧ رقم ٨
طبعا نحن الإثنان صح لأن كل واحد يراه من ناحيته صح ،
الناس ليست صورة منك ، كل واحد له وجهة نظر “تحترم”
(٥) “افصل مشاعرك تماما”
لاتذهب العمل ومعك مشاكل البيت والأولاد ، ولا تدخل البيت ومعك مشاكل العمل .
(٦) ..”الاسترخاء وقاعدة ال ٧ ثوان”
قبل اخذ القرار اعط نفسك مهلة ٧ثوان
مثلا : اعمل نفسك إنك تفكر في موضوع أو قل : معي مكالمة وسأرجع إليكم ، في هذه الفترة ٧ ثوان تعطي فرصة للمشاعر أنها تقترب من العقل حتى تأخذ قرار سليم .
وأقول وأكرر : لا تاخذ قرار وأنت غاضب ولا تعطي وعودًا وأنت مبسوط .
(٧) “اقتصاد المشاعر”
المشاعر عرض وطلب ، الإفراط في المشاعر يقلل قيمتها والاتزان في المشاعر يزود قيمتها .
فمثلًا أم غاضبة طول الوقت مع الأولاد بعد فترة سيكون غضبها لا قيمة له والأولاد يألفونه وكأن غضبها شيء عادي جدا .
كذلك الإفراط في الحب يجعل المشاعر. باردة .
إخراج المشاعر يكون بالقدر المناسب وفي الوقت المناسب.
“نتيجة البحث “
الانسان الناضج هو الذي يحسن تقدير مسافة الأمان بين ثورة المشاعر المتوهجة وحسابات العقل و هذا يستغرق ٧ثوان كما ذكرنا ولكن ممكن يحدث في لحظتها ، حتى يتم التوافق بينهما واتخاذ القرار المناسب لتعبر سفبنة الحياة بنجاح وتكون قادرة على مواجهة ما يعترضها في رحلتها من عواصف ومطبات .
النهاية ..
ربنا يهبنا نعمة التصالح مع النفس حتى ننعم بهدوء واستقرار وسلام داخلي لنكون صناع قرارات صائبة خاصة في هذه الأيام المكتظة بالمشاكل والقلاقل ونستطيع كبح جماح الصراعات النفسية التي تواجهنا في حياتنا اليومية .