بقلم د . صالح وهبة
وأنا جالس في شرفتي، أحتسي قهوتي المفضلة «متأملًا في عظمة الخالق والقوانين التي تسير عليها الطبيعة بدقة متناهية ونظام عجيب »
رأيت السحب تركض في الفضاء ركض الخائفين والشمس تبدو خلفها صفراء عاصية الجبين والبحر ساج صامت في خشوع الزاهدين، الأزهار تتفتح فتملأ الجو عبير ، الفراشات تتراقص على الورود والرياحين، المياه تنساب بدقة وانسجام ليس لها مثيل، البساتين تختال بأشجارها المزدانة بالثمار الوفير وتتدلى من الأشجار كأنها شموع وقناديل،أوقدت في مهرجانات وميادين ،
وفي لحظات التأمل هذه،لفحتني نسمة هواء خفيفة تداعب جبهتي وكأنها تلفت نظري على شجرة جميلة في مواجهة شرفتي، شدني جمالها وهي متربعة على حلة خضراء تمتد الى السماء في شموخ وكبرياء ،
وكأنها تتحدى الرياح التي تراقصها فتتمايل برقة وخفة ودلال وإباء ، فتحكي لصديقاتها من الأشجار المجاورة لها “بلغة صامتة” فيها تفاخر وتباهي بينوعها وصلابتها بكل ثقة واستعلاء .
فكرت قليلا وقلت في نفسي : الناس تعجب بالشجرة بجذعها الشامخ وأوراقها وثمارها ولا يذكرون الذي يحملها على أعناقه ويجعلها في أبهى صورة كعروسة جاهزة للزفة،
هذا ما دفعني أن أجري حوار مع هذه الجنود المجهولة من أجناد الطبيعة الذين يعملون وراء الكواليس، الذين يعملون في صمت وإنكار للذات ولا ينالون مدح أو كلمة شكر أو رضا من أحد، لكن يهمهم أن يروا سعادتهم في سعادة واراحة غيرهم ، وأولهم «الجذور » وإليكم نص الحوار .
أنا : أنت حامل الشجرة على أكتافك وكل من يرى الشجرة يمدح فيها(في أوراقها وثمارها )وأنت مختبيء تحت الأرض، لا أحد يذكرك بكلمة مدح أو شكر ، ده بالعكس لو أحد رأى جزء منك ظاهر يردموك فورا بالتراب ويقولون :”اكتموا أنفاسه “.. ألم يضايقك هذا ؟
الجذر : بالعكس أنا أكون في قمة السعادة وأنا حامل الشجرة وهذا يكفيني ولا أريد مدح من أحد ، انا أنفذ ما أمرني به رب العباد
واستطرد قائلا: سعادتي في أن أرى الشجرة في أحسن صورة .
أنا : فكرت قليلًا وقلت في نفسي :الله الله على العمل في صمت وإنكار الذات ليتنا نحن البشر نتعلم ونتعظ .
أيها الإنسان أين أنت من هذا. ؟
هل انت جذر أم جذع أم ثمرة. ؟ وفي سياق متصل تذكرت أساس العمارة في إنكار الذات أيضا فالناس تعجب بالعمارة من حيث المنظر والشكل العام وعدد الأدوار وفخامة الشقق التي تحويها والأدوار العليا التي تنطح في السحاب وينسون أساس العمارة الذي له الفضل في حملها وتثبيتها .
قادني فضولي أن أجري حوار مع الأرض وهذا نصه :
أنا : أنا أعرف انك بتدوري حول محورك مرة كل ٢٤ ساعة وحول الشمس مرة كل سنة ، ممكن أعرف بتستفيدي ايه من اللف والدوران منذ بلايين السنين وعمرك ما فكرتي ترتاحي شوية من هذا اللف والدوران أو تستندي شوية على محورك ؟
الأرض : أن مبسوطة لأني بأنفذ ما أمرني الله به بأن أعمل وفق قوانين وانظمة لا أحيد عنها
أنا :وماذا يحدث لو ريحتي شوية ؟
الأرض : لو توقفت لحظة عن الدوران يحدث ربكة في نظام الكون ، ربكة في الليل والنهار في الظلمة والنور واستطردت قائلة: أنا سعادتي في تنظيم الأوقات والسنين وتنظيم مواسم الزراعة وهذا يكفيني ، سعادتي في إراحة الآخرين .
فقلت : ليتنا نتعلم من الطبيعة البذل والتضحية والعطاء بدون مقابل
بعد ذلك لفت نظري زهرة جميلة تبكي والحزن مخيم عليها فقررت أن أنهي بها الحوار فاقتربت منها رويدًا رويدًا وسألتها:
أنا : أيتها الزهرة الحسناء، شايفك بتبكي وقطرات الندى تذرف من عينيكي الجميلتين ممكن أعرف السبب. ؟
الزهرة : أبكي بحرقة على زميلاتي اللاتي يتعرضن للقطف والخطف والاختفاء من حين لآخر “بيوحشوني”
أنا : أي نوع من البشر الذين يفعلون هذه الجريمة النكراء
الزهرة :لو سمحت لا تسميهم بشر ، إنما هم ذئاب مفترسة أسيرة فكر متصلب والغريب أنهم يظنون بأفعالهم هذه يقدمون خدمة لله
أنا : ممكن أعرف ماذا يحدث لهذه الزهور في فترة اقتطافها ؟
الزهرة : عندما تقطف الزهرة من بستانها وهي يانعة، عندما تترك المناخ الذي ترعرعت فيه ، تذبل وتضعف وتتقهقر وتفقد عطرها وحيويتها وتكون مثل زهرة صناعية مرسومة بريشة فنان .
وفي النهاية ..
ليتنا نكون تعلمنا من الطبيعة فضائل في إنكار الذات والعمل في صمت واحترام النظام والقوانين والسلام الداخلي والتسامح الذي لا يؤدي إلى الخنوع والعطاء غير المتناهي دون مقابل ، فالبحر لا ياكل سمكه والنهر لا يشرب ماؤه والشمس لا تشرق لنفسها والوردة لا تعبق لذاتها وذات الرضع لا تشرب لبنها .